CNN CNN

بقلم الدكتور العناني: حرب العملات بين الصراع الاقتصادي والانكفاء القومي

بقلم الدكتور جواد العناني
الجمعة، 13 كانون الثاني/يناير 2012، آخر تحديث 14:00 (GMT+0400)


أصبح التنبؤ بمستقبل العملات وتأثيرها على الاقتصاد الدولي واحداً من المهن المجدية والجاذبة لاهتمام الناس وقراراتهم. وعندما يُستخدم مصطلح "حرب العملات" تبرز إلى ذهن المختصين والمهتمين عدد من المؤلفات الحديثة حول الموضوع، والتي احتلت قوائم الكتب الأكثر مبيعاً.

وحرب العملات ليست ظاهرة حديثة، بل هي تشير إلى التخفيض التنافسي الذي تمارسه بعض الدول لزيادة صادراتها وتقليل مُستورداتها من أجل تقليص العجز التجاري أولاً، وتحريكاً للاستثمار في الدول المخفضة ثانياً سعياً لخلق مزيد من فرص العمل للعاطلين عنه.

وقد مورس هذا التخفيض التنافسي مرات كثيرة. ولكن فائدته عبر الوقت تتقلص إن لم تتبخر لأن الدول الأخرى تحذو حذو الدول المخفضة مما يقلل من الفوائد المرجوة منه على الجميع. وكذلك، فإن من آثاره السلبية هو تقليص القوه الشرائية للعملة المحلية داخل الأسواق المحلية. وبمعنى آخر فإن التخفيض يكون مصحوباً بالعادة بارتفاع في الأسعار لأنه قلل من قيمة العملة بقرار، ولأنه إن نجح في زيادة الصادرات وتقليل المستوردات سوف يقلل من حجم السلع المعروضة في السوق المحلية مما يرفع الأسعار.

ولقد رأينا في الآونة الأخيرة أن الأزمة المالية في أوروبا قد أزمت بدورها وضع "اليورو". ولكن إصرار الولايات المتحدة بالمقابل على عدم رفع سعر التبادل للدولار  خلق حالة من التقلب في أسعار العملات. وذلك لأن أوروبا تشكو أن وضعها الداخلي الاقتصادي لا يبرر ارتفاع سعر اليورو مقابل الدولار، وإذا بقي اليورو مرتفعاً فإن فرص تحسن الاقتصاد الأوروبي سوف تتضاءل.

وكذلك، فإن الولايات المتحدة والصين قد دخلتا من أيام الرئيس جورج بوش الابن في جدل مستمر حول سعر تبادل العملة الصينية (اليوان) مقابل الدولار الأمريكي.

فالميزان التجاري بين البلدين كان باستمرار لصالح الصين. وقد أدى هذا الحال، الذي استمر لحوالي ثلاثة عقود، إلى زيادة مديونية الولايات المتحدة للصين، حيث بلغت حوالي ثلاثة تريليون دولار، وإلى زيادة الاحتياطات الأجنبية ألصينيه. وقد مارست الولايات المتحدة ضغوطاً على الصين لكي ترفع سعر عملتها، ولكن الأخيرة رفضت، ورغم الضغوط عليها فإنها اكتفت فقط بزيادة الفائدة على الودائع  بالعملة الصينية المحلية بنسبة ضئيلة.

وكان موقف الصين دائماً أن المشكلة لا تكمن في انخفاض سعر اليوان، بل في الاقتصاد الأمريكي الذي تراجعت إنتاجيته وتنافسينه.

وفي عام (2007) صدر كتاب "حرب العملات" للكاتب الصيني "سونج جونج بنج" باللغة الصينية، وسرعان ما ترجم إلى لغات أخرى. وفيه يقول الكاتب إن البنوك الأمريكية هي التي تقوم بممارسات خاطئة من أجل الحفاظ على مصالحها، وهي وراء حرب العملات. وتوقع الكاتب حدوث أزمة مالية في الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي قبل حدوثها فعلاً عام 2008.

وتصادف أن اقتصادياً أمريكياً من أصول إيرانيه اسمه "نوريل روبيني" قد أصدر تنبؤات مشابهة لذلك عبر مركزه المسمى "روبيني للاقتصاد الدولي"، وطالب بالعودة إلى قاعدة الذهب والاستغناء عن العملات.

وصدر في شهر نوفمبر من هذا العام كتابان بعنوان حرب العملات، الأول هو "حرب العملات 3" للكاتب الصيني سونج، والذي سبق له أن أصدر (حرب العملات 2) عام 2009. وكتاب آخر لخبير أمريكي في بورصة نيويورك والبنوك الاستثمارية اسمه "جيمس ريكاردز"، ويطالب فيه أيضاً بالعودة إلى "قاعدة الذهب".

والطريف أن الكاتب الصيني سونج الذي باع كتابه في الصين مليون نسخة قد تخلى عن دبلوماسيته في الجزء الثالث، واتهم المصارف الأمريكية بأنها وراء المؤامرة من أجل حصر الثروة فيها. وقد ذكر في كتابه أن "أسرة روتشيلد" المعروفة تمتلك ثروة مقدارها خمسة تريليون دولار في الوقت الذي لا يملك فيه بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت سوى أربعين بليوناً.

من الواضح أن الحديث عن "حرب العملات" لم يعد موضوعاً فنياً، بل صار حديثاً قومياً في الصين والولايات المتحدة. فالكاتب "سونج" مثلاً يتوقع أن تنضج حرب العملات عام (2024)، وعلى الصين أن تبني عزلة مالية عن الاقتصاد العالمي لتحافظ على مكتسباتها. أما الولايات المتحدة فقد غضب بعض مسؤوليها غضباً شديداً على الأمم المتحدة لما أصدرت دراسة عام (2010) تقول فيها إن الاقتصاد الأمريكي لا يمكن أن يستمر في تزويد الاقتصاد العالمي بالدولارات على حساب العجز في الموازنة الأمريكية، والعجز في الميزان التجاري، ولذلك علينا أن نبحث عن نظام نقد دولي جديد غير معتمد على الدولار.

وفي الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الذهب بسرعة خياليه جعلت الرجوع إلى قاعدة الذهب مطلباً منطقياً، لكن الاقتصاديين المتميزين مثل "روبرت مونديل" من جامعة كولومبيا (فائز بجائزة نوبل عام 1999)، وريتشارد كوبر من جامعة هارفارد، يتبنيان نظرية وجود ثلاث عملات رئيسيه في العالم وهي الدولار، واليورو، ويختلفان حول العملة الثالثة هل ستكون الين الياباني أم اليوان الصيني، الذي يتوقع "مونديل" أن يكون اليوان هو العملة الثالثة، وواضح أنه هو الآن أقرب إلى الصواب.

العالم يمر في مرحلة متقلبة تعكسها حرب العملات بين الدول، والناس في الوطن العربي، كما في أنحاء العالم، يريدون معرفة مصير مدخراتهم وموجوداتهم إن استمرت حالة الفوضى الحالية في أسواق العملات الدولية.

ولعل العرب الذين تقدر استثماراتهم الخارجية بحوالي (1.5) تريليون دولار معظمها بالدولار، هم من أكثر الجهات التي يجب أن تعطي هذا الموضوع نصيبه العادل من الاهتمام والمتابعة.

* الدكتور جواد العناني: خبير اقتصادي وسياسي، شغل منصب وزير الخارجية ورئيس الديوان الملكي الأردني سابقاً.

* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع CNN بالعربية.