CNN CNN

الدكتور محمد ربيع: ربيع عربي وخريف أمريكي

الجمعة، 13 كانون الثاني/يناير 2012، آخر تحديث 14:00 (GMT+0400)

جاء الربيع العربي مبكرا في عام 2011 ليفاجئ العالم بزخمه وجاذبيته، لأن العالم لم يكن يتوقع أن تقوم الشعوب العربية يوما بثورة سلمية ضد حكامها الذين استهانوا بمشاعرها وأهانوا كرامتها واغتصبوا حقوقها لعقود. وهذا جعل الثورة العربية ترمز إلى التفاؤل والأمل في حدوث تغيير جذري يضع العرب على طريق واضح المعالم، ينقلهم من الكبت والظلم والخوف إلى الحرية والعدل والطمأنينة.

ولقد تسبب نجاح الثورة في تونس في تحفيز شعوب عربية أخرى على التحرك وكلها ثقة بأن حظها لن يقل عن حظ التونسيين. وبالفعل، تبع سقوط نظام بن عليّ الذي اتصف بالفساد والاستبداد واستباحة موارد الوطن والشعب، سقوط نظام مبارك الذي لم يقل فسادا أو ظلما أو استباحة لموارد مصر وشعبها عن نظام بن عليّ. وهذا أدى إلى انتقال عدوى الثورة إلى شعوب عربية أخرى، وأسهم في نجاح بعضها في تحقيق أهدافها واقتراب آخرين من أهدافهم.

يتصف الربيع دوما بجماله ورقة نسيمه وأزهاره وعطره، ما يجعل الأمل يداعب قلوب عشاق الفصول في معايشة ربيع ناضج طويل. فهل سيكون الربيع العربي استثنائي ويستجيب لهذه الأمنيات؟ سؤال من الصعب الإجابة عليه في ضوء ما يمر به العرب من أزمة حضارية طاغية وتخلف اقتصادي وثقافي وفقر وجهل.

لكن، بغض النظر عما ستؤول إليه أوضاع الربيع وما بعد الربيع، ومهما كانت توجهات القوى السياسية والفكرية التي ستتولى مقاليد الحكم، يمكن القول أن نظام الحكم الذي ساد الحياة العربية قبل عام 2011 سقط ولن يعود، وأن أوجه الظلم التي رافقت الاستبداد قد انتهت، ما يجعل من غير الممكن أن يستمر نظام حكم قادم لا يعرف من أين يبدأ، ولا كيف يبني وطنا ومجتمعا سليما، ويحفز الجماهير على المشاركة في عملية البناء.

فيما كان الربيع العربي يُسقط رموز الاستبداد الواحد تلو الآخر، كانت أوروبا تدخل صيفا تميز بشدة الحرارة وارتفاع الرطوبة بعد ربيع طويل مثير ومثمر. ومع اشتداد الحرارة والرطوبة أخذ الإنسان الأوروبي يحس بضيق النفس وعدم القدرة على العيش حياة طبيعية، ما جعل شعوب أوروبا وقادتها ومفكريها يدخلون مرحلة صعبة تتصف بالتخبط واختلال التوازن.

نعم.. لقد عاشت أوروبا ربيعا طويلا نضج على يديها وشملها بحنانه على مدى نصف قرن تقريبا، شهدت خلاله ازدهارا ثقافيا واقتصاديا، واستقرارا سياسيا وأمنا لم تشهده منذ فجر التاريخ. لكن الأوروبيين لم يستطيعوا أن يحافظوا على ربيعهم لأنهم لم يحرصوا عليه، ولم يدركوا على ما يبدو أن الربيع بحاجة لعناية خاصة تشبه العناية بالورود كي يطول، وأنه لا يمكن لربيع أن يُعمر طويلا. لهذا فقد الأوروبيون ربيعهم الغالي، وفقدوا بفقدانه إحساسهم بالأمل والاستقرار والثقة بالنفس والتطلع نحو مستقبل أفضل.

إن الترحم على ربيع فات أمر مفهوم، والحنين لأيامه ولياليه أمر مقبول، لكن التمني عليه أن يعود إلى سابق عهده أمر يدعو إلى الشك في عقلانية هواة التمني، لأن كل ما يفوت يموت. وهذا يفرض على الأوروبيين أن يجدوا أولا طريقة للتخلص من حرارة الصيف ورطوبة الصيف، وأن يحددوا ثانيا العوامل التي تسببت في هروب الربيع قبل الأوان، وأن ينتقلوا بعد ذلك إلى التفكير الواعي في كيفية تحضير التربة أثناء فصل الشتاء القادم لاستقبال ربيع جديد بثوب جديد. فالربيع القديم لن يعود لأن حرارة الصيف ورطوبة الصيف أفسدت التربة القديمة وجعلتها غير صالحة لتجدد الربيع بحلته السابقة.

وفيما كان العرب يدخلون ربيعا واعدا، ويدخل الأوروبيون صيفا حارقا، كان الأمريكيون يدخلون خريفا عاصفا. إذ كانت أزمة أسواق العقار والبنوك التي بدأت في عامي 2007 و2008 على التوالي قد أغرقت الاقتصاد الأمريكي في أزمة عويصة متشعبة كشفت مدى هشاشة البنوك الأمريكية، وأسهمت في تعقيد أزمة اليورو والديون الأوروبية. وفي ضوء تواصل تلك الأزمات وتراكم تبعاتها السلبية على مجمل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في أمريكا وأوروبا، ومنها ارتفاع معدلات البطالة، واتساع دائرة الفقر، وتزايد حالات الإفلاس الشخصية والتشرد، وتراجع الاستثمارات ومعدلات النمو الاقتصادي، وتنامي فجوتي الدخل والثروة بين الفقراء والأثرياء دخلت أمريكا خريفا طال وطغى.

إذ على الرغم من مرور 4 سنوات على أزمة سوق العقار وأكثر من 3 سنوات على أزمة البنوك، لا تزال الأزمة الاقتصادية في أمريكا مستمرة، وأزمة العجز في الميزانية الفدرالية متواصلة، والتمحور السياسي يزداد حدة ويبتعد عن العقلانية.


إن التاريخ الذي يرفض أن يكرر نفسه مهما كانت الظروف والتبعات لن يسمح للعرب أو الأوروبيين أو الأمريكيين أن يستعيدوا أمجادهم الغابرة مستخدمين أدوات قديمة تجاوزها العصر وفلسفات عفى عليها الزمن. وإذا كان الربيع يرمز إلى الأمل والتفاؤل، ما يعطي العرب فرصة أطول للتفكير في حالهم وترتيب أمور بيتهم، يرمز الصيف إلى الغضب وفقدان الصبر، ما يفرض على الأوروبيين أن يتصرفوا قبل أن تفلت الأمور ويغدو من الصعب السيطرة عليها.

أما الخريف فيرمز إلى الاستسلام، ما يفرض على الأمريكيين أن يستغلوا فترة الركود ليفكروا مليا في أسباب ما أصاب اقتصادهم من عاهات وثقافتهم من تشوه، وأن يجدوا معادلة جديدة لإعادة هيكلة اقتصادهم وثقافتهم قبل حلول فصل الشتاء. فالشتاء يحمل معه أمطارا وثلوجا كثيرا ما تتسبب في تدمير بيوت كثيرة، وقطع تيار الكهرباء عن بيوت أكثر، وإغلاق شوارع وطرقات بلا عدد، وتعطيل مصانع عن العمل.

ولما كان الربيع هو أمل الجميع، ومحبوب الجميع، فإن على شعوب العالم أن تتحد وتعمل معا لإعداد التربة العالمية لإستقبال ربيع نوعي يكون مُلْكا الجميع، لا يستثني فقيرا أو ثريا، أسودا أو أبيضا، يشمل الجميع بحنانه وأشواقه ولياليه وسحره.

د. محمد عبد العزيز ربيع www.yazour.com

* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع CNN بالعربية.